النظام اللغوي للعربية

 

        اللغة العربية شأن اللغات الأخرى تمتلك نظاما لغويا خاصا على أكثر من مستوى، يمكن إدراكه من خلال اختلاف أصوات الناطقين بالعربية وتعدد جملهم دون تكرار إلا عبارات نمطية كالتحية، وتعدد أشكال تركيب الجمل المستعملة في الكتب دون تكرار جملة بذاتها، حيث يكمن في هذا التنوع والاختلاف أكبر دليل على نظام اللغة الذي يعتمد على التعدد والاختلاف وفق معايير وأصول ثابتة يمكن إدراك الخلل الواقع فيها فور حصوله، فإن قال أحدهم: "صوت السيارة مجعز"، أدرك من يسمعه أنه غيّر صيغة الكلمة، وترتيب حروفها، وأخطأ بجعل "مجعز" مكان "مزعج"، وإن قال طفل صغير: "بوابة الغرفة مفتوحة"، فإننا نلاحظ أنه استعمل كلمة غير مناسبة للدلالة على الشيء المسمى، وأنه كان ينبغي أن يقول: "باب" الغرفة، فالبوابة تُستخدم مع الدار بأكملها، وإن أضاع أحدهم راحلته في الصحراء بما عليها من زاد؛ ونام متعبا بعد أن دعا الله أن يكرمه بعودتها، وأرهقه السير من مكان لآخر دون جدوى، فاستيقظ ووجدها واقفة على رأسه، فقال مع الفرح والانفعال وهو يرفع يديه إلى السماء: "أنت عبدي وأنا ربك!" أدرك بعد قليل أنه أخطأ وأن قوله كان ينبغي أن يكون: "أنت ربي وأنا عبدك!".

        وكل هذا يدل على وجود قواعد تجرى عليها اللغة، يعرفها أبناؤها ويلاحظونها ويحتكمون إليها في ما يعرف بقواعد النظام اللغوي الصوتي أو الصرفي أو النحوي أو الدلالي أو الأسلوبي أو الكتابي.

(1) المستوى الصوتي:

        تتألف اللغة العربية من مجموعة محدودة من الأصوات، لكل صوت منها حرف يدل عليه عند الكتابة، إذ أن كل كلمة تتكون من أجزاء صغرى هي الأصوات، واختلاف الصوت يؤدي إلى اختلاف المعنى، فكلمة "دليل" تختلف عن "ذليل"، ولم يختلف في الكلمتين سوى صوت صغير واحد هو الدال والذال، وكلمة "طاب" تختلف عن "تاب" و"ثاب" و"جاب" و"غاب"، والحرف الأول هو رمز الصوت الصغير في كل كلمة منها الذي أعطاها معنى يختلف عن الأخرى.

        وللغة العربية أصواتها الخاصة، وهي تمثل جزءا من شخصيتها أو نظامها العام، وأصوات اللغة هي أحد المستويات التي يتألف منها البناء اللغوي، وتدرس اليوم في علم خاص يسمى "علم الأصوات"، يحدد لكل صوت "مفرد" مخرجه وصفته.

(2) المستوى الصرفي:

        تتركب الأصوات في كلمات، وتتخذ الكلمات هيئة أبنية مخصوصة، وكل منها يأتي في صيغ متمايزة، فللفعل صيغ، وللاسم صيغ وللمشتقات صيغ وللتصغير صيغ...، واسم الفاعل غير المفعول، واسم الآلة غير اسم المكان.

        ولو قال أحدهم: "يِنفع" بكسر الياء في مضارع "نفع"، فإنه يخالف القياس الصرفي، إذ أن بناء المضارع من الثلاثي يكون بفتح حرف المضارعة: "يَنفع".

        ولهذا يتحفظ علماء اللغة على تعريب "تلفون" بهذه الطريقة لأنها مخالفة لصيغ الاسم والأوزان التي يأتي عليها في العربية.

        واهتم العلماء بصوغ الأسماء الأجنبية المقترضة في قوالب صرفية تنسجم مع نظام أبنية الكلمة العربية، ولهذا حرص كثير من أبناء العربية على تحوير: (Television) إلى (التلفزة) أو (التلفاز)، لتصبح على مثال صيغة من صيغ الصرف العربي: الفعللة أو الفعلال.

(3) المستوى الدلالي:

        يتمثل المستوى الدلالي في المعنى المخصوص والطريقة الخاصة في الاستعمال لكل كلمة من كلمات اللغة، إذ يدرك المرء دون لبس المراد بكلمة (حِلم) و(حُلم)، وبين المراد بكلمة (فارع) وكلمة (رافع).

        ولا يستطيع إنسان أن يدرك معاني جميع الكلمات، فهو يجمع حصيلة واسعة حسب ثقافته وسعة اطلاعه واحتكاكه باللغة، ودليل ذلك أن قراءة نص قديم تضع الإنسان أمام عدة كلمات لا يدرك معناها.

        وقد يختلف معنى الكلمة باختلاف البيئة واللهجات المحلية مما يؤدي إلى اللبس وسوء الفهم، ومن ذلك أن (مبسوط) في اللهجة المصرية ولهجات عربية أخرى تعني على المستوى الدلالي (مسرور)، أما في اللهجة العراقية فإنها تعنى (مضروب ضربا شديدا)، ويمكن تأمل كلمة (انصرف) ومعناها في الفصحى والعامية، و (قتل) في الفصحى والعامية.

(4) -المستوى النحوي:

        يقوم المستوى النحوي على أمرين هما التركيب والإعراب، فالجملتان: "ليلى زارت فدوى" و "فدوى زارت ليلى" متشابهتان في ثلاثة عناصر على مستويات ثلاثة هي: الأصوات والصرف والمعاني، لكن الجملتين تختلفان في أمر واحد هو ترتيب الكلمات فيهما، وهذا الترتيب يعود إلى طريقة التركيب، والتركيب عنصر آخر من عناصر النظام اللغوي، وهو عنصر له قواعد مقررة في كل لغة ضمن "علم النحو"، ومن الواضح أن هذا التركيب القواعدي على الرغم من تشابه العناصر الثلاثة أدى إلى الاختلاف في المعنى، فالزائر في الأولى هو المزور في الثانية.          وتركيب الجمل يقتضي ترتيبا معينا ليس من السهل كسره ومن أمثلة ذلك موضوع الإضافة في النحو الذي يقوم على تقديم المضاف على المضاف إليه بخلاف اللغة الإنجليزية، فنقول: "مركز العلم" ولا نقول: "العلم مركز" أو "العلم سنتر".

        ويلعب الإعراب دورا مهما في المستوى النحوي لتحديد المعاني ومن ذلك قوله تعإلى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"، ولهذا السبب يكون التسكين وإسقاط الإعراب من الكلام نقصا ومأخذا ولذلك لا بد من الاجتهاد في تعلم قواعد الإعراب، ومحاولة الالتزام به عند القراءة والكتابة.

(5) المستوى الأسلوبي:

        تعبر اللغة عن المعنى الواحد بأساليب مختلفة، وإن كانت على اختلافها مستمدة من مادة العربية جارية على نظامها الصوتي والصرفي والدلالي والنحوي.

        من ذلك قول مروان بن أبي حفصة لإسحاق الموصلي بعد أن تغدى عنده: "أطعموا آذاننا رحمكم الله"، فهذا القول تألف من مجموعة أصوات انتظمت في كلمات ذات أبنية مخصوصة ودلالات معلومة، وقد رُكبت الكلمات، وأُعربت وفق نظام العربية، لكن معناها الكلي تمثّل في طلب سماع الغناء لا الطعام!

        ومن ذلك قول الأعرابي لزميله وقد سارا طريقا طويلا في الصحراء: "أتحملني أم أحملك؟" قاصدا: أتحدثني فتخفف بعد الطريق وطولها عني وكأنك حملتني فلم أشعر بالتعب أم أقوم بذلك أنا، وغير ذلك كثير في العربية مما يعبر عن المعنى الواحد بأساليب مختلفة على الرغم من الالتزام بمستويات الصوت والصرف والدلالة والنحو.

(6)- المستوي الكتابي:

        للعربية نظام كتابي خاص، يجري وفق قواعد معروفة، تراعى فيه اعتبارات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، من ذلك أن العربية لا تكتب ما يُنطق فقط، بل إنها قد لا تكتب ما ينطق:

تُُنطق

تُكتب

صباحلخير

سنتن

لاكن

هاذا

ونطلق

داوود

صباح الخير

سنةٌ

لكن

هذا

وانطلق

داود

....إلخ

        وقد تختلف كتابة الكلمة ذاتها في موقع إعرابي عن موقع إعرابي آخر، ومن ذلك قولنا في حالة الرفع (أسماؤه) وفي حالة النصب (أسماءه) وفي حالة الجر (أسمائه).

 

*مجالات مستويات النظام اللغوي وتكاملها:

        إن كل مستوى من مستويات النظام اللغوي يسهم في تحقيق المعرفة باللغة، وكل منها يختص بزاوية من زوايا هذه المعرفة، لتتكامل جميعها في تكوينها.

        والمهم هنا هو أن نستطيع إدراك هذه المستويات ونسبتها إلى ما يخصها، فإذا سمعنا أحدهم ينطق كلمة (الجمال) بجيم معطشة أشبه بنطق حرف (G) بالإنجليزية نسبنا هذا  إلى المستوى الصوتي.

        وإن أخطأ أحدهم في قوله: "إنّا من الغيورين على اللغة" والصواب "الغُيُر" نسبنا هذا الاختلاف في بناء الكلمة إلى المستوى الصرفي، وإن تشاجر رجلان لأن أحدهما قال للآخر: "أنت مبسوط" لأن "مبسوط" في لهجة الأول "مسرور" وفي لهجة الثاني "مضروب ضربا مبرحا" نسبنا هذا الاختلاف في الفهم إلى المستوى الدلالي.

        وإن قال أحدهم: "فُتح الباب من قِبل أحمد" اعترض البعض بأن هذا التعبير من أثر الترجمة الإنجليزية لأنه لا يجوز في العربية بناء الفعل للمجهول مع وجود الفاعل في الجملة: "أحمد"، فالصواب هو القول: "فَتح أحمدُ الباب"، وهذا التصويب متعلق بالتركيب والإعراب أي بالمستوى النحوي.

        ولا بد أن ندرك أن مستويات النظام اللغوي متداخلة في علاقة عضوية متماسكة لا يسهل الفصل بينها، فالكلمة الواحدة في الجملة يمكن توضيحها وإكمال المعرفة والعلم بها من خلال عدة مستويات، من ذلك قولنا: "هل رُمّم المسجد القديم؟"، فكلمة "المسجد" وحدها يمكن تحليلها بأكثر من مستوى:

 

 

 

 

المستوى

التحليل

الكلمة

الدلالي

النحوي

الصرفي

 

الكتابي

-بيت الله، يؤمه المسلمون لأداء الصلاة

-نائب فاعل لـ "رُمم" مرفوع، وعلامة رفعه الضمة

-اسم مكان السجود على وزن "مفعِل" وأصل قياسه بفتح العين" المسجَد"

-تُثبت الـ التعريف اللاحقة بها، ولا تُحذف منها ألف الوصل وفق النطق، فلا تكتب بالصورة التالية: "هل رُمّملمسجد.."  ... إلخ.

المسجد:

 

* العلاقة العضوية بين مستويات النظام اللغوي:

        إن تفصيل وتقسيم النظام اللغوي إلى المستويات السابقة عملية قسرية يُراد منها تنظيم التصور للغة، إذ إن هذه المستويات لا تنفصل عن بعضها عند الاستعمال، وتتشابك في علاقة عضوية متماسكة تشبه علاقة أعضاء الجسم ببعضها، فلا يسهل فصل جهاز التنفس عن الدورة الدموية في الإنسان، وكذلك يرتبط فهم المعنى الصرفي بالمعنى الدلالي ويتوقف عليه، وذلك ينسحب أيضا على علاقة المستويات الأخرى ببعضها.

        فنحن إذا نظرنا الى كلمة (ظُهور) على وزن (فُعول) إذا أُخذت مفردة احتملت أكثر من معنى، فقد تكون مصدرا للفعل (ظَهَر) وقد تكون جمعا للمفرد (ظَهر)، ويحتاج الفصل في الأمر إلى قرينة من المستوى الدلالي أو سياق الجملة، فإن قلنا: "تُوفي امرؤ القيس قبل ظهور الإسلام" تعيّن المعنى الأول، وإن قلنا: "صقلت نفسه ظُهور الخيل وبطون الكتب" تعيّن المعنى الثاني.

        ونرى في كلمة (سائل) أكثر من معنى يرتبط بأكثر من وجه صرفي، إذ إنها قد تعني فعل الأمر من (سأل) بمعنى السؤال للفهم في قولنا: "سائلِ العلياء عنا"، وقد تكون اسم فاعل من (سأل) في قوله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع"، وقد تكون اسم فاعل من (سال) بمعنى السيلان في قولنا:" الدواء السائل أسلم للأطفال من دواء الأقراص"، وقد تكون اسم فاعل من (سأل) بمعنى السؤال لطلب المال والعطاء في قوله تعالى: "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم"([1]).

 



([1]) ينظر: اللغة العربية1، 6.